"أول خطوة لحل المشكلة هو الاستدراك والوعي بوجود مشكلة" أرجو التركيز على كلمتي الاستدراك والوعي من العبارة السابقة وليس على كلمتي مشكلة وهو! بدءاً بهذه العبارة أردت أن أوضح فكرة معينة لتنوير العقول وتسهيل تقبل الأفكار المطروحة قبل الدخول في صلب الموضوع. يجب علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا كي نفكر بالحلول للمشاكل التي نواجهها كمجتمع وأفراد أما إن قررنا أن نغض البصر ولا نعترف بوجود مشكلة فللأسف الشديد سنبقى على حالنا ولو بعد 153,560 سنة!
المشكلة التي سأطرحها هي مشكلة اجتماعية نواجهها جميعا بلا استثناء في المجتمع العماني خاصة والمجتمع الخليجي عامة ألا وهي مشكلة اللامسؤولية!
1) عندما نجد الشعب يخرج للتظاهر في الشارع ومن ضمن مطالبهم "اسقاط الديون" ذلك وجه من وجوه اللامسؤولية (قد يستنكر البعض هذا النقد ولكن بصراحة خلنا واقعيين كيف يمكن لشخص أن يدخل في دوامة الديون بدون أن يعلم حجم مسؤولية أخذ هذا الدين؟)
2) عندما نجد الموظف الحكومي يطلب من المواطن المراجع "تعال بكرة" فقط لكونه مشغول بلا شئ فذلك وجه من وجوه اللا مسؤولية.
3) وعندما نجد نفس هذا الموظف الحكومي يغيب عن العمل كل أسبوع مرة بعذر مرضي (اشتراه من عيادة "عندك دوام، تعال نحن عندنا العلاج"!) والذي غالبا ما يكون اسهال يوم <السبت أو الأربعاء>، وذلك لأن وجبة عشاء يوم الجمعة أو الثلاثاء اقتضت العادة أن تكون دال وبقلاوة وشاي حليب (لست متأكدا أنه يسبب الاسهال وأنا بصراحة "ما مسؤول" إذا لم يتسبب بالإسهال الذي يؤدي إلى استلام عذر طبي!) فذلك أيضا وجه آخر للامسؤولية.
4) وعندما نرى أحد المواطنين وقد أوقف سيارته في مواقف المعاقين فقط لأنه "مستعجل" للذهاب إلى ستاربكس ،أو ترى السيارة في موقف يغطي مخرج السيارات لأن صاحب السيارة لا يتحمل الجو الحار والمشي لمدة دقيقة ولا يمانع بأن يعطل خلق الله أجمعين كي يوفر هو مشوار مشي 30 ثانية فهذه كلها أوجه من وجوه اللامسؤولية.
5) وعندما نجد سائق حافلة نقل الطلاب يسوق الحافلة كأنه يسوق نيسان مكسيما فهذا أيضا يعتبر لامسؤولية في زي تنكري (إن استصعب القارئ رؤية هذا الفعل بأنه لا مسؤولية، فأنا أقصد تبِعات سواقة الحافلة بتلك الطريقة وإن لا سمح الله تسبب بحادث سير فالعواقب غالبا ما تكون وخيمة ومن سيُحمَّل مسؤولية الوفيات والعواقب غير "القدر" المظلوم؟)
6) وأخيرا وليس آخرا عندما نرى الشاب وقد بلغ سن الرشد ومسؤولياته تنحصر حول الدراسة والأكل والاستحمام وفرك الأسنان بمعجون كولجيت! ولكن ببـــــــــــلاش، وذلك للأسف كونه ببلاش فإن ذلك يصنّف تحت صنف اللامسؤولية!
هذه كلها أمثلة نراها في واقعنا اليومي والأمثلة كثيرة سواء كان ذلك في المنزل أو في العمل أو في مواقف سيتي سنتر. ولكي ننظر إلى أساس هذه المشكلة يجب أن ننظر إليها من منظور البيت والمجتمع والحكومة بشكل عام. فإن الحلول التي نراها حاليا لا تعالج المشكلة بشكل جذري إنما توجد حلول سطحية ومؤقتة (مثل مخالفة الشرطة للشخص الذي أوقف سيارته في مكان يمنع فيه الوقوف) وهي حلول لا تغرس في الشخص الشعور بالمسؤولية الذي هو أساس الحل.
أسس المشكلة
المنزل:
قد يعترض معظم القراء لهذا الواقع (خاصة المتزوجين منهم الذين تعودوا على "تدليع" أطفالهم) وذلك أن مشكلة اللامسؤولية تتأسس في المنزل ويترسخ فكره في المجتمع ويُطبق بإتقان في العمل (في الدوائر الحكومية خاصة). للأسف الشديد فالطفل منذ مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ يعيش بأدنى مراتب المسؤولية (كالتنفس وفرك الأسنان!). يبدأ يومه بأكل طعام الإفطار الذي أعدته "الشغالة" إلا من رحم ربي، وعند الإنتهاء من الأكل لا يتحمل عناء غسل طبقه الذي استخدمه هو في الأكل أو حتى حمل الطبق إلى المغسلة حيث أن"الشغالة موجودة والله وهذي شغلها!". وهكذا دواليك، سواء كان ذلك بترتيب غرفة النوم أو تنظيف ما وسخه الطفل بنفسه مثل سكب العصير على أرضية المطبخ، فالطفل قد ترعرع على أن الشغالة موجودة وشغلها تنظَّف مخلفات ال"هرباب"!
يعني باختصار يكبر الطفل العماني (أو الخليجي) بلامسؤولية فهو يأكل ببلاش ويشرب ببلاش ويدرس ببلاش ويلعب بلاي ستيشن ببلاش ويحصل على تلفون ومعاه رصيد ببلاش ويتخرج من المدرسة ويدخل الكلية ببلاش ويحصل على سيارة ببلاش وهذا عندما يتخرج من الكلية يتزوج ببلاش (على حساب أهله) ويُعقِّب على هذه البلاشات بواحدة كي يكون ختامها مسك أن يسكن في بيت أهله ببــلاااااااش! يعني الشخص الذي عاش مرحلته الحياتية كلها ببلاش وبدون أي أدنى مسؤولية، هل تتوقع منه عندما يصل إلى عمر الثلاثين مثلا أن يصحى من النوم ويقول: من اليوم فصاعدا سأتحمل جميع مسؤولياتي بنفسي!؟ هيهات هيهات، فالإنسان لا يتصرف إلا عندما يكون في الموقف وغالبا ما يحاول أن يسلك الطريق الأيسر، ولو كانت اللامسؤولية هو هذا الطريق فاللامسؤولية دائما سيكون هو الخيار الأول.
وهذا أيضا يعتمد بطريقة أخرى على تأهيل الطفل من الصغر على تحمل المسؤولية، حيث يذكر لي أحد الأصحاب العرب المهاجرين إلى أوروبا، أنه اصطحب ابنه ذو الثمان سنين إلى المدرسة لأول مرة وعندما استقبلتهم مديرة المدرسة توجهت إلى الطفل بسؤال، ولكن كعادتنا نحن العرب (كون الأب هو المتحدث الرسمي للطفل!) رد زميلي على المديرة فنبهته أنها توجهت بالسؤال إلى الطفل وليس إليه، وقالت دعه يرد على السؤال بنفسه كي يتعود على مخاطبة الناس. يعني بلغة الغرب "اعطي الطفل فرصة كي يكبر ويعتمد على نفسه ويتخذ مسؤولية تمثيل شخصيته" أما إذا ظل الأب هو المتحدث الرسمي لإبنه فالنتيجة ستكون رجل اعتمادي على الآخرين! وتوثيقا لهذه الفكرة يحكي لي أحد الأخوة الفرق بين الطفل الغربي والطفل العربي من واقع خبرته بالعمل في محل لبيع الآيس كريم، لاحظ الأخ أنه عندما يأتي الطفل العربي يجد أن الأب غالبا يقوم بوظيفه المتحدث الرسمي لطفله في مهمة شراء الآيس كريم! بينما الطفل الأوروبي أو الغربي عامة، لاحظ زميلي أن الطفل ذو السادسة أو السابعة من عمره يستطيع أن يطلب الذي يريده بنفسه ويُعقِّب حُسن الخدمة ب"ثانك يو". لذلك يكبر هذا الطفل قادرا على أن يعتمد على نفسه، فقد تربى منذ عمر السبع سنين أن يشتري "الآيس كريم" بنفسه بدون أي متحدث رسمي. وبطبيعة الحال عندما يكبر ويصبح رب منزل سيستطيع أن يتحمل جميع مشاغل بيته بدون الإستعانة ببابا وماما لجلب "الشغالة" أو تغيير مصباح دورة المياه!
المجتمع
أما عند النظر إلى انعكاس عدم المسؤولية في المجتمع فمن الواضح أن الطفل نفسه الذي تربى على فكرة أن الشغالة هذي شغلها، يرمي بمخلفاته وقاذوراته في الأماكن العامة منتظرا البطل "صاحب الزي البرتقالي" أن يأتي لينظّف المكان. وهذا قد لا يكون الدافع الوحيد لعدم اتخاذ المسؤولية في المجتمع، حيث أن الفرد قد يكون تربى على مبدأ "المسؤولية" ويحاول قدر المستطاع أن يظهر بقيمه ومبادئه التي تربى عليها في المنزل وأن يعكسها في المجتمع، ولكن للأسف الإنسان كونه كائن اجتماعي ويتأثر بالسلوك المحيط به غالبا ما ينتهي به المطاف إلى تتبع منوال الآخرين وعدم اتخاذ المسؤولية إلا من عاش فيهم بوعي ويقين في قرارة نفسه أن يمضي حياته اليومية بمسؤولية.
الحكومة
أما عند الانتقال إلى جو العمل ونرى أن المدير في الدوائر الحكومية بلا مسؤولية تجاه العمل فإن الموظف بطبيعة الحال سيتبع أسلوب مديره. وقد لا يعي البعض ما هو أساس مشكلة اللامسؤولية في الدوائر الحكومية ولكن أحد هذه الأسباب يعود إلى عدم ثقة المدير بموظفيه (والذي بدوره لا يحصل على الثقة من سعادة معاليه) وعدم تحميل الموظف مسؤولية إتخاذ القرار في العمل وهذا يولد لديه الشعور بالخوف من تحمل المسؤولية. فمعظم أعمال الموظف لا تتم إلا بأخذ موافقة المدير والذي بدوره لا يوافق إلا على الأمور الروتينية اليومية! بينما الأمور التي تتطلب رأي 134 مستشار، فعليه أن يطلب اجتماعا مع سعادة معاليه كي يناقش هذا الموضوع، والذي يكون بخصوص نوع المكيف في مبنى "الحكومة" الجديد!
وإذا استطعنا النظر عبر آلة الزمن إلى المستقبل، فسنلاحظ أن هذا الموظف الذي لم يعتاد تحمل المسؤولية واتخاذ القرار، وقد تقلد مناصب قيادية في الدوائر الحكومية وبطبيعة الحال فإن "مسؤولياته" قد كبرت وعليه أن يتخذ القرارات، ولكن كيف له أن يتصرف إذا لم يتعود تحمل المسؤولية واتخاذ القرار؟ هنا يلجأ إلى ابتكار* الطرق والأساليب لتفادي المسؤولية، (*علما بأن كلمة "ابتكار" كلمة نادرة جدا في الدوائر الحكومية!) فترى صاحب المنصب الكبير لا يتخذ القرار إلا إذا درست جميع الجوانب "السلبية" التي قد تحدث وذلك خوفا من تحمل مسؤولية أي شئ سلبي ولو استغرق اتخاذ القرار شهور وسنوات... وفي بعض الأحيان المشروع لا يُعتمد للموافقة وذلك لأن المشروع أثبت نجاحه في كل دول العالم ما عدا دولة من دول البحر الكاريبي "يعني يمكن يصير لنا نفس اللي صار لهذيك الدولة"! هذا وإن قرر سعادة معاليه وتشجَّع أن يتخذ قرارا لتدشين مشروع مثلا فسيتعمد اخفاء بعض الحقائق غير المهمة مثل متى سينتهي المشروع؟ وذلك خوفا من المحسوبية إذا لم يستطع انهاء المشروع في وقته!
أين يكمن الحل؟
الخبرة هو أفضل مدرب للإنسان!
ابتداء من المنزل يا حبذا لو أن الآباء والأمهات يحمِّلون أبناءهم جزءا من المسؤولية سواء كان ذلك بتنظيف طبقه بعد كل وجبة، أو تنظيف كل ما يوسخه الطفل سواء كان ذلك الآيس كريم على السجاد أو غيره وعدم الإعتماد كليا على "الشغالة". ويا ليت الأب يحمّل ابنه جزءا من مسؤولية التحكم في المال (عن طريق اعطاءهم مصروف شهري وحثهم على البقاء في حدود ذلك المصروف... العمر المناسب= عشر سنوات أو أقل!). وأيضا اعطاء الطفل مسؤولية طلب الأشياء من البائع بنفسه وعدم تطبيق مفهوم المتحدث الرسمي للطفل كي يتعود على الإستقلالية وتركه يخاطب الطبيب أو الممرض أو مدير المدرسة بنفسه إذا تطلب الأمر ذلك حسب الموقف.
أما عن مشكلة "العيش ببلاش" فهذه مشكلة يجب أن تتدخل الدولة فيها وهي ربما عن طريق إيجاد فرص عمل مؤقتة (بمعنى 10 -20 ساعة في الأسبوع) للشباب الصغار (أعمار 14 وما فوق) كي يعملوا في أيام الإجازة وبعض أيام الدراسة كنوع لتحمل بعض المسؤولية واحترام العمل وتقدير كل ما يأتيهم حاليا ببلاش. فوظيفة الأب حسب اعتقادي تنتهي عند انتهاء الطالب من الدراسة، فعلى الطالب أن يجتهد بنفسه كي يضمن الوظيفة (و إن توظف وما زال يقطن في بيت أهله، عليه أن يتوقف ممارسة "العيش ببلاش" ويبدأ بالمبادرة لتحمل بعض مصاريف المنزل ويتخذها كجزء من مسؤولياته) فالأب يمر بأعبائه وليس من العدل أن يتحمل أعباء أبناءه أيضا. حيث أن ذلك سُيجهد الأب من جانب ويُنتج ابن اعتمادي بلا مسؤولية من جانب آخر (ابن غير قادر على تحمل الحياة الزوجية بمسؤولياتها، ويتفاجأ أنه دخل عش الزوجية من غير تأهيل لتحمل مسؤولية نفسه أولاً فما بالك بتحمل مسؤولية الزوجة وتربية الأبناء؟!)
أما في المجتمع، كوني لست عالم علوم الاجتماع فإني لست "مسؤولا" وسأترك التحليل لبطلنا "صاحب الزي البرتقالي" عندما يفرغ من تنظيف قمامة نعنوع الدلوع!
أما في الحكومة، فعلينا أن نتكاتف لإسقاط النظام! هوِّن على نفسك أيها القارئ والقارئة، لا تتوقف عن القراءة هنا وأتورط! فأنا لا أقصد النظام الحاكم، ولكن نظام "أنا ما مسؤول" وذلك قد يكون عن طريق اعطاء الموظف عبئ تحمل المسؤولية بالتوازن مع اعطائه الصلاحية لاتخاذ القرارات كلاً على حسب منصبه. فهل يعقل أن الموظف الحكومي لا يستطيع اتخاذ قرار شراء قلم حبر جاف أخضر لمديره إلا بالإتصال به واستشارته للتأكد من نوع القلم الذي يفضله (حادثة واقعية!)؟ فيجب على الموظف أن يتعود اتخاذ القرار وتحمل مسؤولية عمله كي لا نقع في نفس دوامة واقعنا الحالي الذي سينتج أصحاب سعادة يتقنون فن الهروب من المسؤولية وإتقان اللامحسوبية، وإلا فسنبقى على حالنا نتوارث اللامسؤولية جيلا بعد آخر مثلما توارثنا موقع عمان الجغرافي!
قد يتسائل القارئ، وماذا عن البيت الأبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــض؟؟؟؟
ردي هو: الموضوع للأسف ليس له دخل بالبيت الأبيض واستخدمته كعنوان لجذب انتباه القارئ إلى الموضوع ليس إلا!
ودمتم سالميــــــــــن